Tabaqatus Shufiyah 1-20


تصدير 1 - خصائص القرن الرابع: تعدد أمراء المؤمنين، استقلال الولاة بما تحت أيديهم، تمتع المسلم بحقوق المواطن - في غير قطره - برغم تفكك المملكة.
خراسان ودورها في الحضارة الإسلامية، مدنها العامة، نيسابور، وصف جغرافي لها.
2 - أبو عبد الرحمن السلمي: بيته، صباه وشبابه، شيوخه، تلاميذه، تأليفه في التفسير والحديث والتصوف. وفاته ودفنه.
3 - مؤلفاته، أسماؤها وأماكن وجودها، العناية بنشر كنب أبي عبد الرحمن.
4 - موقف العلماء من أبي عبد الرحمن: محمد بن يوسف القطان واتهامه له بالوضع والكذب، تناقل هذه التهمة حتى اليوم وتحقيقها، رأى العلماء في كتابه " حقائق التفسير " ، رأى الحاكم أبي عبد الله النيسابوري في أبي عبد الرحمن.
5 - خصائص مدرسة السلمي النيسابور، الصلة بينها وبين مدرسة الجنيد في بغداد.
6 - كتاب " طبقات الصوفية " : أصوله التي استفاد منها، أثره في كتب التراجم التالية له: تاريخ بغداد، حلية الأولياء، طبقات الهروى، نفحات الأنس، طبقات الشعراني، الإجازة بالكتاب.
7 - فكرة إخراج الكتاب: الكتابة إلى الأستاذ بدرسن الناشر الأول للصفحات الأولى من الكتاب، تجميع الأصول المخطوطة، وصف كل مخطوطة.
8 - منهج النشر: تصنيف الأصول، مجموعة (ق) وما تمتاز به، اتخاذ لمحة " قوله " أصلاً في الترتيب، إثبات أرجح الروايات في الأصل، والإشارة إلى الروايات المخالفة في الهامش، إتباع عدد الأسطر في الإشارة إلى الاختلاف، تخريج الأحاديث، الترجمة إلى رجال الإسناد، الإشارة إلى المصادر التي ترجمت إلى الصوفي.
9 - شكر المعينين، الخاتمة.
خصائص القرن الرابع: 1 - يعتبر إثبات المؤرخين القرن الرابع الهجري نقطة تحول خطير، في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، من شتى نواحيه: السياسية والفكرية.
فقد ظلت الخلافة الإسلامية في عاصمة المملكة - المدينة، أو دمشق، أو بغداد - طوال القرون الثلاثة الأولى هي المركز الرئيسي، الذي يستمد منه الولاة في شتى بقاع " مملكة الإسلام " سلطانهم، لا يخالفون عن إرادتها، واتجاها.
وبرغم تغلب الأمويين على الأندلس، بعد انقضاء دولتهم، عقيب معركة الزاب، سنة 132ه - سنة 749م، فإنهم لم يحاولوا تنصيب أنفسهم خلفاء على المسلمين، مع أن الخلافة كانت فيهم من قبل، واكتفوا بتسمية أنفسهم " بني الخلائف " .
ولكن لم يلبث العالم الإسلامي، في العقد الأخير من القرن الثالث، أن قامت فيه خلافة جديدة تناوئ خلافة بغداد، تلك هي خلافة الفاطميين في المغرب، إذ أنهم بعد فتح القيروان، سنة 297ه - سنة 909م، اتخذوا لنفسهم لقب الخلافة1.
ولم يلبث الأمير الأموي، عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله المرواني، أن أتخذ لنفسه لقب الخلافة، لما رأى العلويين يخرجون أفريقية من أيدي العباسيين، ويتخذون لأنفسهم - من قبله - لقب الخلافة2.
وبذلك ضمت " مملكة الإسلام " خلفاء ثلاثة: خليفة أموياً في الأندلس، وخليفة علوياً فاطمياً في المغرب ثم في مصر، وخليفة عباسياً في بغداد. وكانوا بذلك يمثلون في العالم الإسلامي الأحزاب السياسية التي كانت تتقاسمه.
وإنه لبحث طريف، يستطيع أن يستفيد منه أولئك الذين يهتمون بدراسة النظريات الدستورية، وأنظمة الحكم في العالم الإسلامي، إذا ما تتبعوا أثر هذا الانقسام في السلطة العليا، عند الفقهاء وعلماء الكلام.
ولم يقتصر أمر الانقسام على الخلافة حدها، بل أن قبضة بغداد، حين ضعفت عن أطراف هذه المملكة المترامية، بدأ أمراؤها يستقلون بأمرها، ويستبدون بحكمها3. وسواء أكانت العوامل الأساسية، لهذا التفكك، راجعة إلى ضعف السلطة المركزية في بغداد، أو إلى ظهور الحركات القومية " Nationalism " في هذه الأقطار، أو إلى صعوبة الاتصال بين بغداد وأطراف المملكة، سواء أكان أحد هذه الأسباب وحده، أو هي كلها مجتمعة، أدت إلى ذلك التفكك، فمما لا ريب فيه أن تيار التفكير الإسلامي لم يجمد، بل سار مسرعاً نحو الكمال؛ حتى ليستطيع الباحث أن يقول، دون مغالاة، إن هذا التفكك السياسي كان بشير ازدهار فكري، وتسابق حضاري، قلما يشهد المرء له نظيراً في تاريخ الحضارات. (h.01)  على أنه قد بقي لخليفة بغداد - ورقعة خلافته أوسع الرقع - سلطان روحي يعترف به الولاة في أقصى أطراف المملكة، وإن أضحوا أكثر قوة من الخليفة، وأوسع ملكاً منه. فهم يتلقون منه عقود ولايتهم، وخلعه عليهم، ويدعى له في المساجد4.
وتعدد الخلفاء، واستقلال الأمراء بما تحت أيديهم من الملك، لم يكن معناه وضع حواجز إقليمية بين أجزاء هذه المملكة، بحيث تحول هذه الأجزاء بين المسلمين في المشرق وبين إخوانهم في المغرب. ولكن كان للمسلم حق المواطن في كل جزء من العالم الإسلامي5: تكرم وفادته، ويتلقى العلم عن الشيوخ في بلاد ما وراء النهر، وخراسان، وفارس، والعراق، كما يتلقاه في مصر والشام والمغرب والأندلس. وكذلك الشأن في التجارة. بل أن المراء كانوا يتسابقون إلى إنزال العلماء في رحابهم، وإكرام منزلهم. ويستطيع قارئ كتاب مثل كتاب " معجم البلدان " لياقوت، أو كتاب " النساب " للسمعاني، أو أي كتاب آخر من كتب الرحلات، أن يجد أدلة ذلك واضحة.
في هذا القرن ولد أبو عبد الرحمن السلمي بخراسان. ولخراسان حديث.
*** خراسان: كلمة خراسان في الفارسية القديمة معناها " أرض المشرق6 " . ويقول ياقوت: " أول حدودها مما يلي العراق، أزاذوار، قصبة جوين، وبيهق، وآخر حدودها، مما يلي الهند، طخارستان وغرنة وسجستان وكرمان. وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها7 " .
وكانت خراسان ذات مركز هام في الخلافة الإسلامية، فقد كان يضم إلى واليها ما يتصل بها، من الإمارات التي تقل عنها أهمية. ولذلك عد البلاذري هذه البلاد ضمن حدود خراسان " وإنما ذكر البلاذري هذا، لأن جميع ما ذكره من البلاد كان مضموماً إلى والي خراسان، وكان أسم خراسان يجمعها8 " .
ودخلت خراسان ضمن مملكة الإسلام في عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه، حين فتحها عبد الله بن عامر بن كريز9. على أن ابن قتيبة يرى أن بلاد خراسان قد أبتدأ دخولها الإسلام في عهد الخليفة الثاني، عمر رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس سنة ثماني عشرة10، وإنما أعيد فتحها في عهد عثمان، بعد أن انتقضت.
ويبدو أنها لم تكن هادئة طوال حكم الأمويين، كما يصور ذلك ابن قتيبة، بل أنها كانت دائماً تغلي بثورات تضطر الأمراء إلى التنقل بين كورها المختلفة، والرحلة عن نيسابور إلى مرو، أو إلى هراة، أو إلى ترك خراسان كلها11.
فلما جاءت الدعوة العباسية كانت مهدها وحضانتها، وكان " أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة. فلما بلغ الله إرادته من بني أمية وبني العباس أقام أهل خراسان مع خلفائهم على أحسن حال وأشد طاعة12 " .
واشهر مدن خراسان أربع: هراة، ومرو، وبلخ، ونيسابور. وفي نيسابور ولد أبو عبد الرحمن السلمي.
*** نيسابور: ونيسابور أهم مدن خراسان الأربع، وإحدى مدن إيران الهامة في العصور الوسطى13. وهي مدينة قديمة، ذات شهرة في تاريخ الفرس الديني، فقد كان يقوم في أحد طساسيجها - وهو ريونْد14 - إلى الشمال الغربي من المدينة في تلاها، بيت من بيوت النار المقدسة الثلاثة، المشهورة في إيران، وهو بيت برزين مهر15.
ويستعملها الجغرافيون العرب استعمالاً يتوسعون فيه، فيطلقونها على الكورة كلها، التي تشمل الطبسين وقوهستان وجام وبخارى وطوس وزوزان واسفراين16 وأبر شهر، وغيرها من المدن التي تدخل في نطاق كورتها.
وفي أضيق مدلولات الكلمة، كانوا يطلقونها على المدينة. وكانت قصبة أبر شهر، وبهذه التسمية كذلك كانت تسمى نيسابور، وقد تبين ذلك مما كان مضروباً على النقود في عهد الأمويين17 والعباسيين.
ولا يعنينا كثيراً أن نستعرض تاريخ المدينة من الوجهة السياسية: متى دخلت ضمن أجزاء مملكة الإسلام؟. وماذا كان شأن الثورات التي قامت بها؟. وما بواعثها؟. ولكن الذي يعنينا في الحديث هنا، هو أن نشير إلى أن معاوية بن أبي سفيان، لما أستتب له الأمر، بعد عام الجماعة، ولى عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة، وجعل إليه فتح خراسان وسجستان. فلما فتحها، سنة أثنين وأربعين، أقام في نيسابور قيس ابن الهيثم السلمي، فظل والياً عليها، حتى سنة خمس وأربعين18؛ مما يقطع بأن السلميين كان لهم شأن ملحوظ في أمر نيسابور. (02.h) وقد تقلب حظ هذه المدينة بين الانتعاش والانتكاس، حتى اتخذها أبو العباس، عبد الله بن طاهر، في القرن الثالث قصبة له. فبدأت تنتعش ووصلت إلى ذروة عمرانها حين أنتقل أمرها إلى السامانيين، في القرن الرابع، وصارت حاضرة وإلى خراسان، ومنزل جنده.
وحسب الإنسان أن يقرأ وصف المؤرخين والجغرافيين من العرب، ليعجب لهذه الحركة الدائمة التي تعج بها المدينة، في شتى نواحي النشاط الإنساني. يقول الأصطخري " إنها كانت مقسمة إلى اثنين وأربعين قسماً، كل قسم طوله فرسخ، وعرضه فرسخ19 " ويقول ياقوت: " لم أر - فيما طوفت من البلاد - مدينة كانت مثلها20 " . وفي نهاية القرن الرابع كانت هذه المدينة مستقر حركة الكرامية21، كما كانت مركزاً هاماً من مراكز التصوف في العالم الإسلامي.
في هذا العهد عاش أبو عبد الرحمن السلمي، ومن هذه النقطة خرج، وفي هذه المدينة ولد، فمن أبو عبد الرحمن السلمي؟.
أبو عبد الرحمن السلمي: محمد بن الحسين بن خالد بن سالم بن راوية بن سعيد بن قبيصة بن سراقة22، أبو عبد الرحمن الأزدي أبا، من أزذ شنودة، وهو أزذ بن غوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ23.
واشتهر أبو عبد الرحمن بنسبته إلى سليم، فهو حفيد الشيخ أبي عمرو، إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف بن سالم بن خالد24 السلمي، نسبة إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، وهي قبيلة مشهورة25.
وإذاً فأبو عبد الرحمن صوفي عربي الأرومة، ووالده، وجده أبو عمرو بن نجيد، كذلك هو دليل مادي، يدفع رأي الذين يرون أن العقلية العربية لا يمكن أن ينمو فيها التصوف ولا أن تفكر فيه، وإنما " هو ثورة العقل الآري على الدين السامي الفاتح26 " .
كان والد أبي عبد الرحمن شيخاً ورعاً زاهداً " دائم المجاهدة، له القدم في علوم المعاملات27 " . وقد صحب ابن منازل، وأبا علي الثقفي، وهما من شيوخ الملامتية في خراسان، ومن تلاميذ أبي عثمان الحيري، ولكنه لم يكن موسعاً عليه في رزقه ويذكر الجامي أنه " أنه لما ولد أبو عبد الرحمن باع ما عنده وتصدق به28 " . وكان على ضيق ذات يده، صوفياً جليل القدر، يقول عنه الحاكم أبو عبد الله في " تاريخ نيسابور " : " قلما رأيت في أصحاب المعاملات مثله29 " .
وقد أشتهر أبو عبد الرحمن، بنسبته إلى قبيلة والدته، أكثر من اشتهاره بنسبته إلى قبيلة والده. ومرد ذلك، في الأغلب الأقرب، أن السُّلميين - وهم قبيلة والدته - كان لهم شأن في نيسابور: فتحاً وحكماً، وثورة وجاهاً. وقد مر أن واحداً منهم ولي أمر نيسابور، من سنة إحدى وأربعين إلى سنة خمس وأربعين، في عهد معاوية بن أبي سفيان.
وثمة شيء آخر، وهو أن والد أبي عبد الرحمن لم يكن في سعة من الجاه والمال، على فضله وكرم خلقه، بل كان مقدراً عليه رزقه، وكان أهل والدته موفورين حتى ليعدون - كما يحدث أبو عبد الرحمن - من كبار أثرياء نيسابور30، على فضل وعلم وزهادة وكرم خلق.
وقد أحتضن أبو عمر، إسماعيل بن نجيد، حفيده أبا عبد الرحمن، بعد أن أنتقل والد أبي عبد الرحمن إلى جوار الله، سنة نيف وأربعين وثلثمائة31. ونشأ الفتى في رعاية جده، ورآه الناس معه، في غدواته إلى حلقات العلم والدرس، إذ لم يكن لأبي عمرو بن نجيد ولد. فكان طبيعياً أن يشتهر أبو عبد الرحمن بهذه النسبة، نسبة السُّلمي.
ولد أبو عبد الرحمن يوم الثلاثاء، العاشر من جمادى الآخرة، سنة خمس وعشرين وثلثمائة32، من الهجرة؛ السادس عشر من أبريل سنة ست وثلاثين وتسعمائة33، من الميلاد. هذا ما يقوله تلميذه أبو سعيد، محمد بن علي الخشاب. ومن حسن الحظ أن هذا التلميذ المخلص لأستاذه قد ألف كتاباً عن حياة شيخه، احتفظ الذهبي - رضي الله عنه - في كتابه القيم " سير أعلام النبلاء " بتلخيص مقبول لهذا الكتاب.
على أن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي34، في كتابه " سياق التاريخ " . يذكر انه ولد في سنة ثلاثين وثلثمائة، ويتابعه على ذكر الكثرة الكاثرة، من المؤرخين الذي أتوا من بعده، ورددوا قوله. وفي ظني ان ما ذكره الخشاب هو الصحيح.
ذلك أن أبا عبد الرحمن كتب بخطه " في سنة ثلاث وثلاثين عن أبي بكر الصبغي35 " وليس من المعقول أن يكتب طفل، في الثالثة من عمره، عن أستاذ، ولكنه أقرب إلى التصديق أن يكتب، وسنه ثماني سنوات.
 (03.h) ثم إنهم يروون أن أبا عبد الرحمن ولد بعد وفاة مكي بن عبد الله بستة أيام، وقد توفي مكي يوم الأربعاء، الرابع من جمادى الآخرة، سنة خمس وعشرين وثلثمائة36.
وكانت والدته سيدة فاضلة تغلب عليها نزعة صوفية واضحة، ولا غرابة في ذلك فهي سليلة بيت علم وزهد، وحسبها أنها ابنة الشيخ عمرو بن نجيد، وزوج أبي محمد، الحسين بن محمد بن موسى الأزدي، والد أبي عبد الرحمن.
يذكر أبو عبد الرحمن انه عندما تهيأ الشيخ أبو القاسم النصراباذي للحج أستأذن أمه في الخروج معه، فقالت له: " توجهت إلى بيت الله! فلا يكتبن عليك حافظاك شيئاً تستحي منه غداً37 " .
ولا تحدثنا المصادر بشيء عن طفولة أبي عبد الرحمن، ولكن يبدو أنه كان بكر والديه، وأن والده رزقه على كبر؛ فقد فرح بولادته أيما فرح، وجمع ما عنده من مال فتصدق به38. ولا ندري أرزق والده غيره أم ظل أبو عبد الرحمن وحيدهما.
وعلى أي حال فقد نشأ أبو عبد الرحمن في رعاية والده الشيخ الصوفي، ووالدته التقية الورعة، وجده لأمه أبي عمرو بن نجيد. وبدأ يتعلم كما يتعلم أقرانه في نيسابور، يغدون إلى من يحفظهم القرآن، ويرويهم الأشعار، ويبصرهم بالعربية.
وقد بدأ أبو عبد الرحمن الكتابة عن شيوخ وقته مبكراً. فهم يحدثوننا أنه " كتب بخطه عن أبي بكر الصبغي سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة39 " . وقد كان أبو بكر يومئذ عالم نيسابور ومحدثها، ولم يكن أبو عبد الرحمن قد جاوز الثامنة بعد.
صرف أبو عبد الرحمن همه إلى الدراسة الحديث والتصوف، ولقي شيوخ عصره فيهما. فرحل في الطلب إلى: العراق، والري، وهمدان، ومرو، والحجاز، وغيرها لكتب الحديث، ولقاء الشيوخ، كما جرت بذلك عادة عصره، فوق تتلمذه لشيوخ نيسابور40، ونيسابور يومئذ من أمهات المدن الإسلامية، التي بلغت قمت الاكتمال في العمران والفكر.
*** شيوخ السلمي: هناك شيوخ لهم أثر واضح في أبي عبد الرحمن، أما أحدهم فالمحدث الحجة العالم، أبو الحسن الدارقطني41، وأما الآخرون فأثرهم صوفي، مثل أبي نصر السراج صاحب " اللمع " وأبي القاسم النصر اباذي، وأبي عمرو بن نجيد.
وإذا أردنا أن نعد كل من لقيهم أبو عبد الرحمن، ونتعرف أثرهم فيه، فإن ذلك سيخرجنا عما قصدنا إليه من هذه العجالة، ولكنا نقتصر على بعضهم فمنهم: 1 - إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء الأبزاري - من أبزار، قرية بينها وبين نيسابور فرسخان - الوراق. وهو من محدثي نيسابور المشهورين. سمع بنيسابور وبنسا؛ ورحل إلى العراق، فسمع بها. وكتب بالجزيرة والشام. وسمع بخراسان وبغداد عن أئمة الحديث فيها42. سمع منه أبو عبد الرحمن.
2 - إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمويه، أبو القاسم النصراباذي. وهو من شيوخ43 أبي عبد الرحمن. وزامل أبا عبد الرحمن، في الاستماع إليه، والانتفاع به، محدث نيسابور، ومؤرخها وعالمها، الحاكم أبو عبد الله صاحب " تاريخ نيسابور44 " .
3 - أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد بن عبد الرحمن بن نوح، أبو بكر الصبغي، من شيوخ نيسابور. رحل إلى العراق والحجاز وغيرهما. ولد في رجب سنة ثمان وخمسين ومائتين، وتوفى في شعبان، سنة أثنتين وأربعين وثلثمائة45. ولعله من أقدم من أخذ عنهم أبو عبد الرحمن.
4 - أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الأصبهاني، حافظ أصبهان، وصاحب كتاب " حلية الأولياء " وكتاب " تاريخ أخبار أصبهان46 " . فقد روى أبو عبد الرحمن، مع تقدمه47، عن عبد الواحد ابن أحمد الهاشمي، عن أبي نعيم48.
5 - أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان، المقرئ النيسابوري، المعروف بابن حسنويه49. وكان كذلك شيخ أبي عبد الله الحاكم50.
6 - أحمد بن محمد بن رميح بن عصمة بن وكيع بن رجاء، أبو سعيد51 النخعي من أهل نسا52. وكتاب " طبقات صوفية " مملوءة بالرواية عنه.
أحمد بن محمد عبدوس العنزي53، أبو حسن الطرائفي - نسبة إلى بيع الطرائف، وهي الأشياء المتخذة من الخشب - توفى بنيسابور، في رمضان سنة ست وأربعين وثلثمائة54.
8 - إسماعيل بن نجيد، أبو عمرو السلمي، جده لأمه. وقد أكثر السماع عنه55.
9 - جعفر بن محمد، أبو القاسم الذري. قال أبو عبد الرحمن، في كتابه " تاريخ الصوفية " ، في ترجمة أحمد بن محمد، أبي بكر بن أبي سعدان: " لم يكن في زمانه أعلم بعلوم هذه الطائفة منه. وكا أستاذ شيخنا أبي القاسم الرازي56 " . (04.h) 10 - جعفر بن محمد الحارث، أبو محمد المراغي - نسبة إلى المراغة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان - أحد الرحالين في طلب الحديث وجمعه، سكن نيسابور وسمع بدمشق وغيرها57.
11 - حسان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري58 الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان. صنف التصانيف، وكان بصيراً بالحديث وعلله، ثقة. أثنى عليه غير واحد وروي عنه كذلك الحاكم أبو عبد الله، وقال عنه: " هو إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء، وأعبدهم " توفي في الربيع الأول، سنة تسع وأربعين وثلثمائة59.
12 - الحسب نب علي بن زيد بن داوود بن يزيد، النيسابوري الصائغ، الإمام الحافظ أبو علي. رحل في طلب العلم والحديث، وطاف وجمع فيه وصنف. ممن روى عنه أبو عبد الرحمن السلمي. ولد سنة سبع وسبعين ومائتين. وعقد له مجلس الأملاء بنيسابور، سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وهو ابن ستين سنة. وتوفي عشية يوم الأربعاء، الخامس عشر من جمادى الأولى، سنة تسع وأربعين وثلثمائة60.
13 - الحسين بن محمد، أبو علي النيسابوري61.
14 - الحسين بن محمد بن موسى الأزدي، والد الشيخ أبي عبد الرحمن62.
15 - سعيد بن القاسم بن العلاء بن خالد، أبو عمرو البرذعي63.
16 - عبد الله بن فارس، أبو ظهير العمري البلخي64.
17 - علي بن عمر بن أحمد بن مسرور، أبو الحسن الدارقطني الحافظ65.
18 - محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، صاحب ابن وارة66.
19 - محمد بن داوود بن سليمان، أبو بكر الزاهد النيسابوري. شيخ عالم ورع زاهد. سافر كثيراً، وجال البلاد في طلب العلم، وأكثر من الحديث. فسمع بنيسابور، والري، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والموصل. وروى عن جعفر الفريابي وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي بعلي الموصلي. وروى عنه كذلك الحاكم أبو عبد الله وصنف " أخبار الصوفية والزهاد " . وأملي الحديث بنيسابور. وتوفي عاشر ربيع الأول، من سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة67.
20 - محمد بن عبد الله بن أحمد، أبو عبد الله الصفار، الزاهد الأصبهاني68. كان زاهداً ورعاً. ألف كتاباً في الزهد69.
21 - محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن شاذان، أبو بكر الرازي المذكر، كان أبو عبد الرحمن كثير الحكايات عنه، ملياً بالسماع منه70.
22 - محمد بن علي بن إسماعيل، أبو بكر القفال الشاشي - من الشاش، بما وراء النهر - تتلمذ له أبو عبد الرحمن، وروى عنه، وكان القفال أوحد أهل الدنيا في الفقه والتفسير واللغة. رحل إلى الدنيا، وطلب العلم، ولقي كبار شيوخ عصره. وكان شيخ الشافعية في وقته. ولد سنة إحدى وتسعين ومائتين. ومات سنة ست وستين وثلثمائة71.
23 - محمد بن محمد بن الحسن، أبو الحسن الكارزي - نسبة إلى كارز - من قرى نيسابور - النيسابوري. روى عنه أبو عبد الرحمن72، كما روى عنه الحاكم أبو عبد الله73.
24 - محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى بن ماسرجس، الماسرجسي النيسابوري74.
25 - محمد بن يعقوب بن يوسف بن الأخرم، أبو عبد الله الشيباني الحافط محدث نيسابور وعالمها. صنف " المسند الكبير والصحيحين " . روى عنه أبو عبد الرحمن السلمي75، وكذلك الحاكم أبو عبد الله. ومع براعته في الحديث والعلل والرجال، لم يرحل عن نيسابور، وعاش أربعاً وتسعين سنة، وما سنة أربع وأربعين وثلثمائة76.
26 - محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان بن عبد الله، أبو العباس الأصم. سمع منه أبو عبد الرحمن77، وهو من شيوخ نيسابور ومحدثيها78.
27 - يحيى بن منصور القاضي، أبو محمد النيسابوري79. ولي قضاء نيسابور بضع عشر سنة، وتوفي سنة إحدى وخمسين وثلثمائة. وقد لقيه أبو عبد الرحمن وسمع منه80.
28 - أبو إسحاق الحيري، وقد سمع منه كذلك أبو عبد الرحمن81.
تلاميذ أبي عبد الرحمن: رأينا أبا عبد الرحمن قد لقي شيوخ عصره، وسمع منهم الحديث، وتأدب بهم في الطريق. وقلما كان ينزل بلداً به عالم حديث أو التصوف، دون أن يلقاه ويأخذ عنه. يقول السلمي: " كنت من النصراباذي " ، أي بلد أتيناه، يقول: قم بنا نسمع الحديث " 82.
وقد رزق أبو عبد الرحمن من القبول عند الناس ما لم يرزق غيره من الشيوخ83 حتى أقبل عليه التلاميذ والمريدون، يتأدبون به ويأخذون عنه علوم القوم، وهو يومئذ رواية أخبارهم ونقالهم84.
ولسنا بحصر من استفادوا بأبي عبد الرحمن، أو تعلموا عليه؛ ولكنا نذكر أشهرهم، وأسيرهم ذكراً، فمنهم: (05.h) 1 - أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله، أبو البكر البيهقي - نسبة إلى بيهق، قرى مجتمعة بنواحي نيسابور - الحافظ الفقيه الشافعي، سمع من أبي أبو عبد الرحمن85، وأخذ عنه. ولد في شعبان، سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة86.
2 - أحمد بن عبد الواحد الوكيل، وهو الذي ينقل عن الصاحب " تاريخ بغداد " ما يرويه عن أبي عبد الرحمن87.
3 - أحمد بن علي بن الحسين التوزي القاضي، كان ثقة88. وروى عن أبو عبد الرحمن السلمي، وروى عن الخطيب البغدادي في تاريخه89.
4 - أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن خلف، أبو بكر الشيرازي، ثم النيسابوري. مسند خراسان. روى عن أبي عبد الرحمن كتبه90. وروى كذلك عن الحاكم أبي عبد الله وطائفة. قال فيه عبد الغافر: " هو شيخنا الأديب، المحدث المتقن الصحيح السماع. ما رأينا شيخاً أورع منه، ولا أشد اتقاناً. توفي في الربيع الأول، سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وقد نيف على التسعين91 " . وهو الذي وردت مخطوطة: م، بروايته.
5 - عبد الله بن يوسف، أبو محمد الجويني، إمام عصره بنيسابور، ووالد أبي المعالي الجويني. تفقه على أبي الطيب، سهل بن محمد الصعلوكي. وقدم مرو، قصداً لأبي بكر عبد الله بن احمد القفال المروزي، فتفقه به، وسمع منه وقرأ الأدب، وبرع في الفقه، وصنف فيه التصانيف المفيدة. وكان ورعاً، دائم العبادة، شديد الاحتياط، بي الطيب، مبالغاً فيه. سمع أستاذيه: أبا عبد الرحمن السلمي، أبا محمد بن بابويه الأصبهاني. ومات سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة92.
6 - عبد الكريم بن هوزان، أبو القاسم القشيري،93 صاحب " الرسالة القشيرية؛ وهي تمتلئ بالرواية عن السلمي. توفي القشيري سنة خمس وستين وأربعمائة94.
7 - عبيد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر الأزهري. من أشهر شيوخ الخطيب ما يرويه من أخبار، عن أبي عبد الرحمن95.
8 - على بن أحمد بن محمد بن الأحزم، أبو الحسن المديني، النيسابوري الزاهد المؤذن. أملي مجالس عن أبي عبد الرحمن السلمي96. توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وأربعمائة97.
9 - علي بن سليمان بن داود الخطيبي، أبو الحسن الأوزكندي، نسبة إلى أوزكند، بلد بما وراء النهر، من نواحي فرغانة - قدم همدان، سنة خمس وأربعمائة وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي وغيره98.
10 - عمر بن أحمد بن محمد بن موسى بن منصور، الجوري النيسابوري، الحافظ أبو منصور99. وهو ثقة فاضل، من أصحاب أبي حنيفة. جاور بالقرب من الجامع العتيق بنيسابور، ولازم طريق السلف. وكان من خواص أصحاب أبي عبد الرحمن، وصاحب كتبه. وكتب عنه الكثير. توفي في جمادى الآخرة، سنة تسع وستين وأربعمائة.
11 - عمر بن إسماعيل بن عمر، أبو حفص الجصيني - نسبة إلى جصين، محلة بمرو، اندرست، وصارت مقبرة، ودفن بها بعض الصحابة - وقيل أنه مروزي. روى عن أبي عبد الرحمن السلمي. وكان فقيهاً على المذهب الشافعي100.
12 - فضل الله، أبو سعيد بن أبي الخير، الشاعر الفارسي، ولد سنة سبع وخمسين وثلثمائة، في " مَيْهَنَة " ، أهم مدينة في إقليم " خابران " بخراسان، ودرس الفقه، واعتنق مذاهب الصوفية. مات سن أربعين وأربعمائة.101 وقد رحل أبو سعيد ابن أبي الخير إلى أبي عبد الرحمن السلمي، فتلقى الخرقة من يده102.
13 - القاسم بن الفضل بن أحمد، أبو عبد الله الثقفي الجُوبَارِيُّ، نسبة إلى جوبارة، محلة بأصبهان - رئيس أصبهان. روى عن أبي عبد الرحمن السلمي103. وتوفي عن أثنتين وتسعين سنة، عام تسع وثمانين وأربعمائة104.
14 - محمد بن إسماعيل بن محمد، أبو بكر التفليسي - نسبة إلى تفليس، بلد بأذربيجان - النيسابوري المولد؛ الصوفي، المقرئ. روى عن أبي عبد الرحمن السلمي105. ومات في شوال، سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة106.
15 - محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم بن الحاكم، أبو عبد الله الحاكم، الضبي الطهماني، النيسابوري الحافظ، المعروف بابن البَيّع. رصيف أبي عبد الرحمن، وزميله في التلقي عن الشيوخ. روى عنه في كتابه " تاريخ نيسابور " 107. توفي سنة خمس وأربعمائة108.
16 - محمد بن عبد الواحد، أبو الحسن. روى عنه الخطيب البغدادي، أبي عبد الرحمن109.
17 - محمد بن علي بن الفتح، الحربي. روى عن أبي عبد الرحمن السلمي، وروى عنه الخطيب البغدادي في كتابه " تاريخ بغداد " 110. (06.h) 18 - محمد بن يحيى بن إبراهيم، أبو بكر المزكي، النيسابوري. روى عن أبي عبد الرحمن111.
19 - مهدي بن محمد بن عباس بن عبد الله بن أحمد بن يحيى، المامطيري - نسبة إلى مامطير، بليدة من نواحي طبرستان، أبو الحسن الطبري، يعرف بابن سرهنك. قدم همدان، في شوال، سنة أربعين وأربعمائة. وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي112.
20 - أبو بكر بن زكريا، ممن رووا عن أبي عبد الرحمن113.
21 - أبو سعد بن رامش، وهو كذلك ممن لقوا أبا عبد الرحمن ورووا عنه114.
22 - أبو صالح المؤذن، أحد الذين صحبوا أبا عبد الرحمن وأخذوا عنه1.
23 - أبو علاء الواسطي، القاضي. لقي أبا عبد الرحمن وروى عنه، ونقل الخطيب البغدادي بإسناد الواسطي عن أبي عبد الرحمن115.
*** تصانيف السلمي: كان جد أبي عبد الرحمن لأمه، أبو عمرو إسماعيل بن نجيد، سليل بيت سرى ورث السلف خلفهم وعملهم، وكتبهم، كما ورثوهم جاهاً ومالاً في نيسابور، فلما توفى أبو عمرو، جد أبي عبد الرحمن، سنة ست وستين وثلثمائة116 " خلف ثلاثة أسهم في قرية، قيمتها ثلاث آلاف دينار - وكانوا يتوارثون ذلك عن جده، جد أبي عمرو، أحمد بن يوسف السلمي، وكذلك خلف ضياعاً ومتاعاً. ولم يكن له وارث غير والدة أبي عبد الرحمن117 " .
لم يشغل أبو عبد الرحمن بمطالب العيش وإنما شغل بالعلم يجمع كتبه - وقد ورث قدراً كبيراً منها عن آبائه - ويتلقاه عن شيوخه في مختلف بقاع المشرق، ويعلم الناس ويفيدهم.
وقد كان أبي عبد الرحمن " بيت كتب118... جمع فيه الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه119 " من طرائف كتب الصوفية والمحدثين، وكان ينقطع فيه للقراءة والتأليف، وكان شيوخ نيسابور يستعيرون منه بعض ما يحويه هذا البيت من نفائس.
وقد أبتدأ أبو عبد الرحمن التصنيف سنة نيف وخمسين وثلثمائة، وهذا معناه أن أبا عبد الرحمن ظل يؤلف قريباً من بضعة وخمسين عاماً120.
ألف أبو عبد الرحمن في الحديث، وفي تفسير القرآن الكريم، وفي التصوف وانصرف يحدث الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من أربعين سنة، إملاء وقراءة121، وانتخب عليه الحفاظ الكبار. وقد صنف في أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، من جمع الأبواب، والمشايخ وغير ذلك ثلثمائة جزء.
وعلى أي حال فإن هذه الثورة الضخمة، من التأليف في الحديث، لم يصل منها إلا الجزء اليسير جداً، إذا قيس بالمفقود.
وأما تفسير القرآن الكريم فلم يصلنا منه إلا هذا التفسير الصوفي الفريد: " حقائق التفسير " ذلك التفسير الذي جر على أبي عبد الرحمن خصومة ولدداً شديدين. تولى كبرهما - في أكثر الأمر - الشيخ الحنبلي الجليل ابن الجوزي122.
ولكن الذي أشتهر به أبو عبد الرحمن، هو تأليفه في التصوف، لا تأليفه في التفسير، ولا تأليفه في الحديث، برغم طول الفترة التي تصدر فيها للتحديث. وحتى هذا التأليف الوحيد في التفسير، الذي بين أيدينا من آثار أبي عبد الرحمن، لم يؤلفه على الطريقة الجارية في التفسير، ولكنه سلك به طريق التصوف فجعله " تفسيراً على لسان أهل الحقائق " .
بهذه التآليف في التصوف اشتهر أبو عبد الرحمن بأنه " نقَّال الصوفية، وراوي كلامهم123 " ، " وممن له العناية التامة بتوطئه مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل124 " .
" وقد صنف في علوم القوم سبعمائة جزء " . وأظن أن المراد من هذه الأجزاء العديدة، التي ألفها أبو عبد الرحمن، ليس هو ما يقوم في ذهننا عن الجزء، من هذه الأعداد الكبيرة، من الكراسات الصغيرة؛ بل لعل المقصود بالجزء يومئذ هو هذه الكراسة، التي يتألف من عدد منها جزء واحد اليوم. ويتضح ذلك إذا رجعنا إلى تقسيم كتاب مثل كتب " مصارع العشاق125 " فأنا نجده - وهو مجلد واحد في إحدى طبعاته - مقسم إلى أجزاء كبيرة.
توفي جده، أبو عمر بن نجيد، ولم يكن له وارث غير والدة أبي عبد الرحمن فانتقلت ثروته الواسعة إليها126، وأنصرف أبو عبد الرحمن إلى الكتابة والإنتاج، " وكانت تصانيفه مقبولة وحببت إلى الناس، وبيعت بأغلى الأثمان... وكان أبو عبد الرحمن في الأحياء... ورويت عنه تصانيفه وهو حي127 " .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar